اللهم ارحم أمواتنا والمؤمنين

 

اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين

https://allahomerhammyfatherandrighteous.blogspot.com/

الاثنين، 9 أغسطس 2021

اداب الزفاف للالباني الجزء الاخير152-صفحة رقم -218-

 صفحة رقم -152- [ العبوا بها ، العبوا بها ] ( 1 )

( 1 ) أخرجه أبو داود ، وأحمد بسند جيد .
وهذا سند جيد رجاله ثقات رجال مسلم ، غير أسيد هذا فوثقه ابن حبان ، وروى عنه جماعة من الثقات ، وحسن له الترمذي في " الجنائز " وصحح له جماعة ، ولذا قال الذهبي والحافظ :
"
صدوق
صفحة رقم -153-
الثاني : عن ثوبان رضي الله عنه قال :
(
جاءت بنت هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ [ من ذهب ] [ أي خواتيم كبار ] ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب يدها [ بعصية معه يقول لها : أيسرك أن يجعل الله في يدك خواتيم من نار ؟ ] ، فأتت فاطمة تشكو إليها ، قال ثوبان : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة وأنا معه وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب ، فقالت : هذا أهدى لي أبو حسن ( تعني زوجها عليا رضي الله عنه ) - وفي يدها السلسلة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس : فاطمة بنت محمد في يدها سلسلة من نار ؟ [ ثم عذمها ( 1 ) عذما شديدا ] ، فخرج ولم يقعد ، فعمدت فاطمة إلى السلسلة فباعتها فاشترت بها نسمة ، فأعتقتها ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار ( 2 )
( 1 )
أي : لامها وعنفها ، والعذم : الأخذ باللسان واللوم ، كذا في " اللسان " .
( 2 )
أخرجه النسائي والطيالسي ومن طريقه الحاكم والطبراني في " الكبير وكذا أحمد وإسناده صحيح موصول وكذلك صححه ابن حزم وقال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين " . ووافقه الذهبي  
صفحة رقم -159-
الثالث : عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد عائشة قلبين ملويين من ذهب ، فقال : ألقيهما عنك ، واجعلي قلبين من فضة ، وصفريها بزعفران ( 1 ) .
( 1 )
رواه القاسم السرقسطي في " غريب الحديث " بسند صحيح ، والنسائي والخطيب ، والبزار نحوه .
و( القلبين ) : السوارين . ( ملويين ) : مفتولين
صفحة رقم -161-
الرابع : عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :
(
جعلت شعائر ( 1 ) من ذهب في رقبتها ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعرض عنها ، فقلت : ألا تنظر إلى زينتها ، فقال : عن زينتك أعرض ، [ قالت : فقطعتها ، فأقبل علي بوجهه ] . قال ( 2 ) : زعموا أنه قال : ما ضر إحداكن لو
( 1 )
جمع " شعيرة " وهي ضرب من الحلي على شكل الشعيرة .
( 2 )
يعني : الراوي ، وهو عطاء بن أبي رباح ، فإنه راوي الحديث عن أم سلمة ، وعليه فهذا القدر من الحديث مرسل ، لأنه لم يسنده إلى أم سلمة ، فهو ضعيف ، نعم أسنده ليث بن أبي سليم ، فقال : عن عطاء عن أم سلمة به نحه ، أخرجه أحمد ، والطبراني في " الكبير " ، غير أن ليثا فيه ضعف من قبل حفظه ، وعطاء لم يسمع منها ، لكن هذا القدر من الحديث صحيح أيضا لأنه مرسل صحيح الإسناد ، وقد روي موصولا كما علمت ، وله شاهدان موصولان من حديث أسماء وأبي هريرة كما يأتي .  
صفحة رقم -162-
جعلت خرصا ( 1 ) من ورق ، ثم جعلته بزعفران ( 2 ) .
( 1 )
الخرص بالضم والكسر : الحلقة الصغيرة من الحلي . وهو من حلي الأذن . " نهاية " .
( 2 )
أي : صفرته بزعفران .
والحديث رواه أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين . وهو مرسل صحيح الإسناد .
صفحة رقم -163-
وفي حديث أسماء بنت يزيد في قصة أخرى نحوه :
صفحة رقم -165-
زعفران ، فإذا هو كالذهب يبرق ( 1 )
( 1 )
أخرجه أحمد وأبو نعيم وابن عساكر . وهو شاهد حسن لما قبله .
وتتخذ لها جمانتين من فضة ، فتدرجه بين أناملها بشيء من
40 -
شبهات حول تحريم الذهب المحلق ، وجوابها
واعلم أن كثيرا من علماء أعرضوا عن العمل بهذه الأحاديث لشبهات قامت لديهم ظنوها أدلة ، ولا يزال 
صفحة رقم -166-
كثيرون منهم يتمسكون بها على أنها حجج تسوغ لهم ترك هذه الأحاديث ، ولذلك رأيت أنه لا بد من حكاية تلك الشبهات والرد عليها ، كي لا يغتر بها من لا علم عنده بطرق الجمع بين الأحاديث ، فيقع في مخالفة الأحاديث الصحيحة المحكمة ، بدون حجة أو بينة ، فأقول :
دعوى الإجماع على إباحة الذهب مطلقا للنساء ، وردها
1 -
ادعى بعضهم الإجماع على إباحة الذهب مطلقا للنساء ، وهذا مردود من وجوه :
الإجماع الصحيح :
الأول : أنه لا يمكن إثبات صحة الإجماع في هذه المسألة ، وإن نقله البيهقي في [ سننه ) ( 4/124 ) وغيره ، مثل الحافظ ابن حجر في [ الفتح ) ، ولكن هذا كأنه أشار لعدم ثبوته حين قال : ( 10/260 ) في بحث خاتم الذهب :
(
فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء ) ، ويأتي قريبا ما يبطل هذا الإجماع ، وذلك لأنه لا يستطيع أحد 
صفحة رقم -167-
أن يدعي أنه إجماع معلوم من الدين بالضرورة ، وغير هذا الإجماع مما لا يمكن تصوره ، فضلا عن وقوعه ، ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه :
(
من ادعى الإجماع فهو كاذب ، [ وما يدريه ؟ ] ، لعل الناس اختلفوا ) .
رواه ابنه عبد الله في [ مسائله ) ( ص 390 ) .
وتفصيل القول في هذا الموضوع الخطير ليس هذا موضعه ، فليراجع من شاء التحقيق بعض كتب علم أصول الفقه التي لا يقلد مؤلفوها من قبلهم مثل : [ أصول الأحكام ) لابن حزم ( 4/128 - 144 ) ، و[ إرشاد الفحول ) للشوكاني ، ونحوهما .
استحالة وجود إجماع صحيح على خلاف حديث صحيح دون وجود ناسخ صحيح
الثاني : لو كان يمكن إثبات الإجماع في الجملة ، لكان ادعاؤه في خصوص هذه المسألة غير صحيح ، لأنه مناقض للسنة الصحيحة ، وهذا مما لا يمكن تصوره أيضا لأنه يلزم منه اجتماع الأمة على ضلال ، وهذا 
صفحة رقم -168-
مستحيل لقوله صلى الله عليه وسلم : [ لا تجتمع أمتي على ضلالة ) ، ومثل هذا الإجماع لا وجود له إلا في الذهن والخيال ، ولا أصل له في الوجود والواقع ، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في [ أصول الأحكام ) ( 2/71 - 72 ) :
(
وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الإجماع على خلافه ، قال : وذلك دليل على أنه منسوخ . وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين برهانيين ضروريين :
أحدهما : أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط ، ولا هو في العالم ، فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ، ولا سبيل له - والله - إلى وجوده أبدا .
والثاني : أن الله تعالى قد قال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبدا ، لا يشك في ذلك مسلم ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي بقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها 
صفحة رقم -169-
والذكر محفوظ بالنص ، فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله تعالى عز وجل ضرورة ، منقول كله إلينا لا بد من ذلك ، فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه ، وأنه منسوخ كما ذكر ، لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ ، وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله ، ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه ، وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع : اللهم هل بلغت ؟ ) . قال :
(
ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح ، وآية صحيحة التلاوة منسوخين إما بحديث آخر صحيح ، ، وإما بآية متلوة ، ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت ، بل هو موجود عندنا إلا أننا نقول : لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا ، منقولا إلينا ، محفوظا عندنا ، مبلغا نحونا بلفظه ، قائم النص لدينا ، لا بد من ذلك ، وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظا منقولا مبلغا إلينا ، ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه ، فهذا باطل عندنا ، لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد ، لأنه معدوم البتة ، قد دخل - بأنه غير 
صفحة رقم -170-
كائن - في باب المحال ، والممتنع عندنا ، وبالله تعالى التوفيق ) .
تقديم السنة على الإجماع الذي ليس معه كتاب أو سنة
وقال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
(
ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة ، والسنة على الإجماع ، وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة . قال الشافعي : الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة ، وقال في [ كتاب اختلافه مع مالك ) :
(
والعلم طبقات : الأولى الكتاب والسنة الثابتة ، ثم الإجماع فيما ليس كتابا ولا سنة . . . ) .
وقال ابن القيم أيضا في صدد بيان أصول فتاوى الإمام أحمد :
(
ولم يكن ( يعني الإمام أحمد ) يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من 
صفحة رقم -171-
ادعى هذا الإجماع ، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت ، وكذلك الشافعي . . . ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ، ولو ساغ لتعطلت النصوص ، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص ( 1 ) .
قلت : وهذا ما فعله البعض هنا ، فقدموا ما زعموه إجماعا على النصوص المتقدمة ، مع أنه لا إجماع في ذلك ، وبيانه في الوجه التالي :
الثالث : أنه قد ثبت ما ينقض بالإجماع المزعوم ، وهو ما روى عبد الرزاق في [ المصنف ) ( 11 /70 /19935 ) ، وابن صاعد في [ حديثه ) ( 35/1 - وهو بخط الحافظ ابن عساكر ) ، وابن حزم ( 10/82 ) ، بسند صحيح عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول لابنته :
( 1 )
الأعلام : ( 1/32 - 33 )
صفحة رقم -172-
(
لا تلبسي الذهب إني أخشى عليك اللهب ) .
وروى ابن عساكر ( 19/124/2 ) من طريقين آخرين أن ابنة لأبي هريرة قالت له : إن الجواري يعيرنني ، يقلن : إن أباك لا يحليك الذهب فقال :
قولي لهن : إني أبي لا يحليني الذهب يخشى علي من اللهب .
ورواه عبد الرزاق ( 19938 ) نحوه ، وعلقه البغوي في [ شرح السنة ) ( 3/ 210 / 82 ) ، وحكى الخلاف في هذه المسألة ، فإنه بعد أن ذكر إباحة خاتم الذهب للنساء وتحليهن به عند الأكثرين قال :
(
وكره ذلك قوم ) .
ثم ساق حديث أسماء بنت يزيد المتقدم بعضه في المتن ( ص 236 ) وتمامه في التعليق ( 237 ) .
وما حكاه البغوي رحمه الله من الكراهة عن أولئك الذين أشار إليهم من العلماء ، فهي الكراهة التحريمية ، لأنه المعروف في اصطلاح السلف تبعا للأسلوب القرآني في عديد من الآيات الكريمة 
صفحة رقم -173-
كقوله تعالى : وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان .
وقد كنت شرحت هذه المسألة الهامة في كتابي : [ تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ) ( ص 48 - 55 ) ، وذكرت هناك بعض الأمثلة ، فلتراجع .
وبين أيدينا مثال آخر قريب المنال ، وهو ما تقدم في بحث ( خاتم الخطبة ) أن الإمام أحمد ، والإمام إسحاق بن راهويه كرها خاتم الذهب للرجال ، فهذه الكراهة للتحريم أيضا ، لتصريح الأحاديث المتقدمة هناك به ، وكذلك الأمر في تحريم خاتم الذهب على النساء لأن الأدلة صريحة أيضا ، فمن أطلق كراهته عليهن ، فإنما يعني الكراهة الشرعية ، وهي التحريم ، فتأمل منصفا .
وذكر ابن عبد الحكم في [ سيرة عمر بن عبد العزيز ) ( ص 163 ) أن ابنة عمر بعثت إليه بلؤلؤة وقالت له : إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها حتى أجعلها في أذني ، فأرسل إليها ثم قال لها : إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك بعثت لك بأخت لها 
صفحة رقم -174-
ومن الظاهر أن اللؤلؤة كانت محلاة بالذهب ، لأنها لا تقوم بنفسها ، ولا تحلى عادة إلا بها ، ويؤيد ذلك لفظة : [ الجمرتين ) ، فإنها مستوحاة من بعض أحاديث التحريم المتقدمة كحديث بنت هبيرة ، فثبت بطلان دعوى الإجماع في هذه المسألة .
دعوى نسخ الأحاديث المتقدمة ، وإبطالها
2 -
وادعى آخرون نسخ هذه الأحاديث المحرمة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم : [ أحل الذهب والحرير لإناث أمتي . . . ) ، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه ، وقد ذكرها الزيعلي في [ نصب الراية ) ( 4/222 - 225 ) ، ثم حققته في تخريج كتاب [ الحلال والحرام ) للأستاذ القرضاوي ( رقم 78 ) ، وهو ادعاء باطل ، لأن للنسخ شروطا كثيرة معروفة عند العلماء ( 1 ) منها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا عن المنسوخ ، ومنها أن لا يمكن الجمع بينهما ، وهذان الشرطان منفيان هنا ، أما الأول فلأنه لا يعلم تأخر هذا الحديث المبيح عن
( 1 )
انظر مقدمة " الاعتبار "
صفحة رقم -175-
أحاديث التحريم ، وأما الثاني فلأن الجمع ممكن بسهولة بين الحديث المذكور وما في معناه ، وبين الأحاديث المتقدمة ، ذلك لأن الحديث مطلق ، وتلك مقيدة بالذهب الذي هو طوق أو سوار أو حلقة ، فهذا هو المحرم عليهن ، وما سوى ذلك من الذهب المقطع فهو المباح لهن ، وهو المراد بحديث حل الذهب لهن ، فهو مطلق مقيد بالأحاديث المشار إليها ، فلا تعارض وبالتالي فلا نسخ .
ولذلك لم نر أحدا ممن ألف في الناسخ والمنسوخ أورد الأحاديث المذكورة فيما هو منسوخ ، كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي في رسالة [ إخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ في الحديث ) ، والحافظ أبي بكر الحازمي في كتابه [ الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ) ، وغيرهما ، بل قد أشار ابن الجوزي رحمه الله في مقدمة رسالته المشارة إليها إلى رد دعوى نسخ هذه الأحاديث ، فقال :
(
أفردت في هذا الكتاب قدر ما صح نسخه أو احتمل ، وأعرضت عما لا وجه لنسخه ولا احتمال ، فمن
صفحة رقم -176-
سمع بخبر يدعى عليه النسخ وليس في هذا الكتاب ، فليعلم وهاء تلك الدعوى ، وقد تدبرته فإذا فيه أحد وعشرون حديثا ) .
بل قال المحقق ابن القيم في [ الأعلام ) ( 3/458 ) :
(
إن النسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة ، ولا شطرها )
قلت : ثم ساقها ، وليس فيها شيء من هذه الأحاديث السابقة ، فثبت ضعف ادعاء احتمال نسخها ، فكيف الجزم بنسخها ؟ وقد أشار لضعف دعوى النسخ ابن الأثير في [ النهاية ) ، بقوله تعليقا على حديث أسماء المشار إليه آنفا :
(
قيل : كان هذا قبل النسخ ، فإنه قد ثبت إباحة الذهب للنساء ) .
فإن لفظة : [ قيل ) للتمريض كما هو معروف .
وقال العلامة صدر الدين علي بن علاء الحنفي بعد أن حكى كلام ابن الجوزي الآنف الذكر :
(
وهذا هو الذي يشهد العقل بصدقه إذا سلم من 
صفحة رقم -177-
الهوى ، وقد ادعى كثير من الفقهاء في كثير من السنة أنها منسوخة ، وذلك إما لعجزه عن الجمع بينها وبين ما يظن أنه يعارضها ، وإما لعدم علمه ببطلان ذلك المعارض ، وإما لتصحيح مذهبه ودفع ما يرد عليه من جهة مخالفة ، ولكن نجد غيره قد بين الصواب في ذلك ، لأن هذا الدين محفوظ ، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة ( 1 ) .
ولقد صدق رحمه الله في كل ما ذكره ، فأنت ترى أن هذه الأحاديث المحرمة لا تتعارض مطلقا مع حديث حل الذهب للنساء ، لأنه عام ، وتلك خاصة ، والخاص مقدم على العام كما هو مقرر في علم الأصول ، ولهذه القاعدة رجح الإمام النووي رضي الله عنه في [ شرح مسلم ) و[ المجموع ) وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل ، مع أنه مخالف لمذهبه ، بل ومذهب الجمهور ، حتى ظن بعض المتعالمين في هذا العصر أنه لا يقول بالوضوء منه عالم من علماء المسلمين كما نشر ذلك في
( 1 )
كذا في رده على رسالة الشيخ أكمل الدين في انتصاره لمذهب أبي حنيفة ( 103/1 ) . 
صفحة رقم -178-
بعض الجرائد الدمشقية سنة 1386 ه تقريبا .
ولما ذكرنا قال ولي الله الدهلوي في [ حجة الله البالغة ) ( 2/190 ) بعد أن ذكر أحاديث التحريم وحديث الحل :
(
معناه الحل في الجملة ، وهذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث ، ولم أجد لها معارضا ) .
وأقره صديق حسن خان في [ الروضة الندية ) ( 2/217 - 218 ) .
قلت : ومما يدلك على ضعف دعوى النسخ هذه أن بعض متعصبة الحنفية - وقد سبقت الإشارة إليه - لم ينظر إليها بعين الرضا ، مع أنه حكاها عن الجمهور الذين يقلدهم في هذه المسألة ، واحتج على ذلك بقوله - وقد وفق فيه - :
(
إن النسخ لا يلجأ إلى القول به ما دام التوفيق بين الأحاديث ممكنا ، بحيث لا يرد شيء من الأدلة ) ، وهذا حق لا ريب فيه ، وهو من المقرر في علم الأصول .
ولكنه مع الأسف لم يستقر عليه الدكتور ، بل رجع 
صفحة رقم -179-
إلى ادعاء النسخ معارضا بذلك الأخذ بأحاديث التحريم ، فقال :
(
إن الفريقين لما تجاذبا دعوى النسخ احتجنا إلى النظر في التاريخ للترجيح بين المذهبين ، وتعيين الناسخ والمنسوخ ، والتاريخ يؤيد نظر الجمهور ( ) .
فإنه لا شك في أن الصحابة في ابتداء الإسلام كانوا في أمس الحاجة للمال . . . ولقد قسم الأنصار أموالهم مناصفة بينهم وبين المهاجرين ، فكان التختم بالذهب في تلك الفترة بطرا وترفا ، فلما مضت الأيام ، وفتحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتوحات صار الناس في رخاء العيش فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع )
قلت : وجوابي عليه من وجوه :
الأول : أنه لم يذكر نصا تاريخيا يؤيد تأخر المبيح عن الحاظر ، يرجح به نظر الجمهور ، وإنما هو مجرد الدعوى أن الإباحة كانت بعد رخاء العيش ، فأين الدليل عليها ؟ 
صفحة رقم -180-
الثاني : هذه الدعوى لو صحت ، لزم منها أن يكون تحريم الذهب على الرجال قد شرع في الوقت الذي حرم على النساء ، إن لم يكن تقدم عليه ، وكل عاقل يفهم من قوله : [ في ابتداء الإسلام ) ، أنه يعني في مكة ، أو في أول الهجرة على أبعد تقدير ، وإذا كان كذلك ، فنحن نقطع ببطلان هذه الدعوى لأن تحريم الذهب على الرجال إنما كان في أواخر الأمر ، كما نص على ذلك الحافظ الذهبي في [ تلخيص المستدرك ) ( 3/231 ) ، ومما يشهد له ما أخرجه البخاري في [ اللباس ) وأحمد في [ المسند ) ( 4/328 ) عن المسور بن مخرمة :
(
أن أباه مخرمة قال له : يا بني إنه بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية ، فهو يقسمها ، فاذهب بنا إليه ، فذهبنا إليه . . . فخرج وعليه قباء من الديباج مزرر بالذهب ، فقال : يا مخرمة هذا خبأته لك ، فأعطاه إياه ) .
وإنما أسلم مخرمة عام الفتح ، وذلك بعد ثمان سنين ونصف من الهجرة ، فهذا نص على أن الذهب كان مباحا إلى ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنة ونصف تقريبا ، ولولا ذلك لم يلبس صلى الله عليه وسلم القباء المزرر بالذهب ، ولا وزعه على أصحابه كما هو ظاهر
صفحة رقم -181-
الثالث : أنه لو صح قوله : [ فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع ) ، لزم منه إباحة الذهب للرجال أيضا لزوال المانع أيضا وهذا باطل لا يقوله عالم ، وما لزم منه باطل فهو باطل .
فإن قال : هذا غير لازم ، لأن علة تحريم الذهب على الرجال ، غير علة تحريمه على النساء .
قلنا : ما هيه ؟ ولا سبيل له إلى إثباتها أبدا ، إلا بمثل هذه الدعوى التي أثبت بها أختها وليست هي إلا مجرد رأي تفرد به الدكتور في آخر الزمان
وما يلجئ بعض الناس إلى مثل هذه المضايق والآراء ، إلا محاولتهم التخلص من معارضة النص الشرعي لمخالفته لمذهبهم ، وتقليدهم ، وعاداتهم ، فيقعون فيما هو أعظم منه ولو أنهم استسلموا لحكم الله ورسوله - كما هو المفروض في المسلم - لكان خيرا لهم ، ولم يقعوا في مثل ذلك
صفحة رقم -182-
وخلاصة البحث : أن القول بنسخ الأحاديث المحرمة للذهب على النساء مما لا دليل عليه ، بل هو مخالف لعلم الأصول ، والواجب الجمع بينها وبين الأحاديث المبيحة للذهب عليهن ، وذلك بحمل المطلق على المقيد ، أو العام على الخاص ، كما شرحنا ، وينتج منه أن الذهب كله حلال على النساء ، إلا المحلق منه ، كما يحرم عليهن استعمال أواني الذهب والفضة اتفاقا ، فلا نسخ عندنا خلافا لما فهمه الدكتور ، وأدار كل بحثه في كتابه عليه ، كما ينبئك به كلامه السابق في المعارضة المزعومة . والله الهادي ، لا رب سواه .
رد الأحاديث المتقدمة بأحاديث مبيحة ، والجواب عنها
3 -
وقد يرد بعضهم هذه الأحاديث بأحاديث أخرى ، فيها إباحة المحلق من الذهب على النساء ، والجواب أن هذا كان قبل التحريم حتما ، وبيانه :
أن من المعلوم بداهة أن النهي عن الشيء مما يحتمل التحليل والتحريم لا يكون إلا بعد أن يكون مسبوقا بالإباحة ، فالتمسك بها حينئذ فيه مخالفة صريحة 
صفحة رقم -183-
لمنطوق الأحاديث المحرمة ، ومما يقرب هذا إلى المنصفين إن شاء الله تعالى أن هناك أحاديث يستفاد منها إباحة الذهب على الرجال أيضا ، ومع ذلك فلم يأخذ بها أحد من العلماء ، لمجيء النصوص المحرمة ، وقد سبق ذكر بعضها ، بل ذهبوا إلى أنها كانت قبل التحريم ( 1 ) ، وكذلك نقول نحن في الأحاديث المبيحة للذهب المحلق للنساء ، ولا فرق أنها كانت قبل التحريم ، ومن فرق بين هذه وتلك ، فهو متناقض أو متلاعب
تقييد الأحاديث المتقدمة بمن لم يؤد الزكاة ، ورده
4 -
وأجاب بعضهم ( 2 ) بأن الوعيد الوارد في الأحاديث المتقدمة إنما هو في حق من لا يؤدي زكاة تلك الحلي دون من أداها ، واستدل عليه بحديث عمرو بن
( 1 )
انظر " فتح الباري " ( 10/258 - 259 ) .
( 2 )
هو المنذري في " الترغيب " ، وقلده بعض المدرسين في " كلية الشريعة " في جامعة دمشق ، الذي سبق بيان خطئه في تضعيف حديث أبي هريرة المتقدم ، ولم يتعرض البتة للجواب عن جوابنا هذا ، الأمر الذي زادنا ثقة بقوته ، وإيمانا بصوابه
صفحة رقم -184-
شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان ( أي سواران ) غليظتان من ذهب ، فقال لها : أتعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا ، قال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ قال : فخلعتهما ، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : هما لله عز ولرسوله .
أخرجه أبو داود ( 1/244 ) ، والنسائي ( 1/343 ) ، وأبو عبيد في [ الأموال ) ( رقم 1260 ) ، وإسناده حسن ، وصححه ابن الملقن ( 65/1 ) ، وتضعيف ابن الجوزي له في [ التحقيق ) ( 6/197/1 ) ، مردود عليه .
ورواه النسائي في [ السنن الكبرى ) ( ق 5/1 ) عن عمرو بن شعيب به موصولا ، ثم رواه عنه مرسلا ، وقال :
(
الموصول أولى بالصواب ) .
والجواب : إن هذا استدلال ضعيف جدا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر في هذه القصة لبس السوارين ، 
صفحة رقم -185-
وإنما أنكر عدم إخراج زكاتهما ، بخلاف الأحاديث المتقدمة ، فإنه أنكر اللبس ، ولم يتعرض لإيجاب الزكاة عليها ، والظاهر أن هذه القصة كانت في وقت الإباحة ، فكأنه صلى الله عليه وسلم تدرج لتحريمها ، فأوجب الزكاة عليها أولا ، ثم حرمها ، كما هو صريح الأحاديث السابقة ، ولا سيما الحديث الأول من رواية أبي هريرة مرفوعا :
(
من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب . . . ) إلخ ، فإنه لا يدل دلالة قاطعة أن التحريم لنفس التحليق وما قرن معه ، لا لعدم إخراج زكاتها .
والحق أن هذه القصة أفادت وجوب الزكاة على الحلي ، ومثلها قصة عائشة الآتية في زكاة خواتيم الفضة ، فهذه وتلك لا تدل على تحريم الاستعمال ، بل على وجوب زكاة المستعمل فالتحريم وعكسه يؤخذ من أدلة أخرى ، فأخذنا تحريم الذهب المحلق عليهن الأحاديث المتقدمة ، وأخذنا إباحة الفضة من حديث أبي هريرة المتقدم ، ومن حديث عائشة المشار إليها وغيرها
صفحة رقم -186-
وجملة القول أن هذا الحديث لا حجة فيه على ما ذكره المنذري ، لأنه لم ينص فيه على تحريم السوار ، إنما كان لأنه لم يؤد زكاته حتى يمكن أن يقال : إنه مفصل ، وتلك الأحاديث مجملة ، فيحمل المجمل على المفصل ، وإنما هي واقعة عين أفادت وجوب زكاة الحلي ، فلا يعارض ما أفادته الأحاديث السابقة من التحريم .
تقييد آخر للأحاديث ، والجواب عنه
5 -
وأجاب هذا البعض أيضا بجواب آخر ( 1 ) فقال : إن الوعيد المذكور إنما هو في حق من تزينت به وأظهرته ، واستدل بما رواه النسائي وأبو داود عن ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت لحذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( 1 )
وقلده أيضا من أشرنا إليه في التعليق السابق ، دون أن يتعرض للجواب عن ردنا هذا عليه ، بل إنه أوهم طلابه أن هذا التقييد الوارد في حديث النسائي ، ثابت يحتج به ، مع أنه قد ضعفه قبل أسطر بالجهالة الآتي ذكرها ، ولكنه لم يسق لفظ الحديث ليعلم الطالب أنه هو الذي ورد فيه هذا التقييد ، فيعلم عدم ثبوته
ولعل الدكتور وقع منه ذلك اتفاقا ، ولم يتعمده 
صفحة رقم -187-
(
يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به ؟ أما إنه ليس منكن امرأة تتحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به ) .
والجواب من وجهين :
الأول : رد الحديث من أصله لعدم ثبوته ، فإن في سنده امرأة ربعي وهي مجهولة كما قال ابن حزم ( 10/83 ) ولذلك ضعفته في [ المشكاة ) ( 4403 ) .
ثانيا : لو كانت العلة هي الإظهار لكان لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة لاشتراكهما في العلة ، مع أن الحديث صريح في التفريق بينهما ، ولا قائل بحرمة خاتم الفضة على المرأة مع ظهوره ، فثبت بطلان التمسك بعلة الإظهار . ولهذا قال أبو الحسن السندي :
(
تظهره ) يحتمل أن تكون الكراهة إذا ظهرت وافتخرت به ، لكن الفضة مثل الذهب في ذلك ، فالظاهر أن هذا لزيادة التقبيح والتوبيخ ، والكلام لإفادة حرمة الذهب ( يعني : المحلق ) على ا لنساء ، مع قطع النظر عن الإظهار والافتخار ) .
صفحة رقم -188-
وهذا كله يقال على افتراض صحة الحديث ، وإلا فقد عرفت ضعفه ، فسقط الاستدلال به أصلا .
رد الأحاديث بفعل عائشة ، والجواب عنه
6 -
ومن أعجب ما ردت به هذه الأحاديث الصحيحة قول بعض متعصبة الحنفية :
(
إن عائشة رضي الله عنها كانت تلبس الخواتيم من الذهب ، كما رآها ابن أختها القاسم بن محمد وحدث بذلك ، وهذا الخبر عن عائشة رواه البخاري في صحيحه ) .
وأقول : إطلاق عزو هذا الأثر للبخاري فيه نظر ، لأن المعروف عند العلماء أن العزو إلى البخاري مطلقا معناه أنه في [ صحيحه ) مسند ، وليس كذلك أمر هذا الأثر ، فإنه إنما ذكره معلقا بدون إسناد وذكر الحافظ في [ الفتح ) ( 10/271 ) أنه وصله ابن سعد في [ الطبقات ) . وسكت عن سنده ، وهو عندي حسن ، فقال ابن سعد ( 8/48 ) : أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي 
صفحة رقم -189-
عمرو قال : سألت القاسم بن محمد قلت : إن ناسا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأحمرين : المعصفر والذهب ، فقال : كذبوا والله ، لقد رأيت عائشة تلبس المعصفرات ، وتلبس خواتم الذهب .
لكن رواه غير عبد العزيز بلفظ : كانت تلبس الأحمرين : المذهب ( 1 ) والمعصفر ) . أخرجه ابن سعد أيضا : وأخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن ابي أويس عن سلميان بن بلال عن عمرو به ، وهذا الإسناد أصح ، لأن سليمان هذا أحفظ من عبد العزيز . فإن ثبت ذكر الخاتم في هذا الأثر عن عائشة فالجواب ما سيأتي ، وإلا فلا حجة فيه مطلقا ، لأن الرواية الأخرى - وهي الأصح - لا ذكر للخاتم فيها ، فهو على هذا مثل حديثها الآخر من طريق القاسم أيضا أن عائشة كانت تحلي بنات أختها الذهب ثم لا تزكيه . رواه أحمد في مسائل عبد الله ( ص 145 ) ، وسنده صحيح ، فهذا محمول على الذهب
( 1 )
أي : المموه بالذهب ، بمعنى المطلي به ، و" المعصفر " هو الثوب المصبوغ بالعصفر 
صفحة رقم -190-
المقطع ، وهو جائز لهن اتفاقا .
ثم قال ذاك المذكور :
(
لا يتصور أن تلبس عائشة رضي الله عنها الذهب الملحق ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم معها وفي بيتها ، ثم لا ينهاها عنه ) .
قلت : هذه مغالطة ظاهرة_ولعلها غير مقصودة - إذ ليس في الأثر المتقدم أن عائشة لبسته على علم منه صلى الله عليه وسلم ، بل فيه أن القاسم بن محمد رآها تلبسه ، فمعنى ذلك أن لبسها إياه إنما كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، لأن القاسم لم يدركه صلى الله عليه وسلم .
ثم قال عطفا على ما سبق :
(
أو ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبلغها ؟ فهذا مستحيل قطعا ) .
قلت : لا استحالة في ذلك إلا نظرا ، وهذا ليس يهمنا ، لأن الواقع خلافه ، فكم من سنن فعلية ، وأقوال نبوية خفيت على كبار الصحابة رضي الله عنهم ، ولولا صحة السند بذلك عنهم ، لقلنا كما قال المومأ إليه 
صفحة رقم -191-
هاهنا ، ولا يتحمل هذا التعليق الإكثار من أمثلة ذلك ، فلنقتصر على مثالين منها :
1 -
أن عائشة ترى أن الأقراء إنما هي الأطهار ، كما قال أحمد في [ المسائل ) ( 185 ) ، وروى مالك في [ الموطأ ) ( 2/96 ) بسند صحيح جدا عنها أنها قالت :
(
تدرون ما الأقراء ؟ إنما الأقراء الأطهار ) .
ونحوه في مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله ( ص 231 ) .
أقول : وقد ثبت في السنة أن القرء إنما هو الحيض ، وبه قال الحنفية ، والرجل منهم ، فهل يرد حضرته مذهبه ، ولا سيما أنه موافق للسنة من أجل قول عائشة هذا ؟ أم يجعل قولها دليلا على نسخ ذلك كما فعل في مسألتنا هذه ؟
2 -
قالت عائشة رضي الله عنها : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : ما هذا يا عائشة ؟ فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال : أتؤدين زكاتهن ؟ قلت : لا ، أو ما شاء الله ، قال : هو حسبك من النار
صفحة رقم -192-
أخرجه أبو داود ( 1/244 ) وغيره ، وإسناده على شرط الصحيح كما قال الحافظ في [ التخليص ) ( 6/19 ) ، ومحمد بن عطاء الذي في إسناده هو محمد بن عمرو بن عطاء ثقة محتج به في [ الصحيحين ) كما في [ الترغيب ) ، وظنه ابن الجوزي في [ التحقيق ) ( 1/198/1 ) رجلا آخر فجهله ، وضعف الحديث من أجل ذلك ، فلا يلتفت إليه .
فهذا الحديث صريح في إيجاب الزكاة على الحلي ، وهو حجة الذين ذهبوا إلى إيجابه ، ومنهم الحنفية .
ثم إنه قد ورد عن عائشة نفسها ما يعارض هذا الحديث ، وهو ما أخرجه مالك ( 1/245 ) عن القاسم ابن محمد ( راوي حديث الخاتم ) أن عائشة كانت تل بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي ، فلا تخرج من حليهن الزكاة . سنده صحيح جدا ، وتقدم نحوه من رواية أحمد
صفحة رقم -193-
فهذه مخالفة صريحة عن عائشة رضي الله عنها لحديثها ( 1 ) فإذا جاز في حقها ذلك ، فبالأحرى أن تخالف حديث غيرها ، لم تروه هي ، وهي على كل حال مأجورة ، فماذا يقول المشار إليه في هذه المخالفة ؟ أيدع الحديث والمذهب لقولها ، أم يتمسك بالحديث ويدع قولها معتذرا عنها بأي عذر مقبول كما هو الواجب ؟
وعلى كل حال فقد ظهر لكل من له قلب أن ما كان يظنه مما [ لا يتصور ) أو أنه [ مستحيل قطعا ) قد أثبتناه بالأسانيد الصحيحة ، ولازم ذلك أن لا يتلفت المسلم إلى أي قول يخالف ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، مهما كان شأن قائله فضلا وعلما وصلاحا لانتفاء العصمة ، وهذا من الأسباب التي تشجعنا على الاستمرار في خطتنا من التمسك بالكتاب والسنة ، وعدم الاعتداد بما سواهما ،
( 1 )
وألفت النظر إلى أن من مذهبها إخراج الزكاة عن مال الأيتام ، انظر " الموطأ " ، و" الأموال " ، و" مسائل الإمام أحمد " لابنه عبد الله . وروى ابن أبي شيبة في " المصنف " عن القاسم قال : كان مالنا عند عائشة ، فكانت تزكيه ، إلا الحلي ، وسنده صحيح أيضا 
صفحة رقم -194-
كما صنعنا في هذه المسألة التي أسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بها ، وبكل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم .
ترك الأحاديث لعدم العلم بها بمن عمل بها ، وجوابه
6 -
هذا ، ولعل فيمن ينصر السنة ويعمل بها ويدعو إليها من يتوقف عن العمل بهذه الأحاديث بعذر أنه لا يعلم أحدا من السلف قال بها ، فليعلم هؤلاء الأحبة أن هذا العذر قد يكون مقبولا في بعض المسائل التي يكون طريق تقريرها إنما هو الاستنباط والاجتهاد فحسب ، لأن النفس حينئذ لا تطمئن لها خشية أن يكون الاستنباط خطأ ، ولا سيما إذا كان المستنبط من هؤلاء المتأخرين الذين يقررون أمورا لم يقل بها أحد من المسلمين بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها ، دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوص الشرع أولا ، مثل إباحة بعضهم للربا الذي سماه ب ( الربا الاستهلاكي ) واليانصيب الخيري - زعموا - ونحوهما أما ومسألتنا ليست من هذا القبيل ، فإن فيها نصوصا صريحة محكمة لم يأت ما ينسخها - كما سبق بيانه - فلا يجوز ترك العمل بها للعذر المذكور ، ولا سيما أننا قد ذكرنا من قال بها مثل 
صفحة رقم -195-
أبي هريرة رضي الله عنه ، وولي الله الدهلوي وغيرهما كما تقدم ، ولا بد أن يكون هناك غير هؤلاء ممن عمل بهذه الأحاديث لم نعرفهم لأن الله تعالى لم يتعهد لنا بحفظ أسماء كل من عمل بنص ما من كتاب أو سنة ، وإنما تعهد بحفظهما فقط كما قال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فوجب العمل بالنص سوءا علمنا من قال به أو لم نعلم ، ما دام لم يثبت نسخه كما هو الشأن في مسألتنا هذه .
وأختم هذا البحث بكلمة طيبة للعلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى لها مساس كبير بما نحن فيه ، قال : في [ إعلام الموقعين ) ( 3/464 - 465 ) :
(
وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنا من كان ، ويهجرون فاعل ذلك ، وينكرون على من يضرب له الأمثال ، ولا يسوغون غير الانقياد له صلى الله عليه وسلم ، والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة ، ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس ، أو يوافق قول فلان وفلان ، 
صفحة رقم -196-
بل كانوا عاملين بقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، وبقوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وبقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ، وأمثالها ، فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا ، يقول : من قال هذا ؟ دفعا في صدر الحديث ، ويجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به ، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل ، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل ، وأقبح من ذلك عذره في جهله ، إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة ، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع ، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث ، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة . والله المستعان
صفحة رقم -197-
40 -
وجوب إحسان عشرة الزوجة :
ويجب عليه أن يحسن عشرتها ، ويسايرها فيما أحل الله لها - لا فيما حرم - ، ولا سيما إذا كانت حديثة السن ، وفي ذلك أحاديث :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم :
(
خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ( 1 )
الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع :
( 1 )
رواه الطحاوي في " المشكل " من حديث ابن عباس ، وروى منه الشطر الأول الحاكم ، وقال :
"
صحيح الإسناد " . ووافقه الذهبي .
وله شاهد من حديث عائشة ، أخرجه أبو نعيم في " الحلية " ، وهو عند الدارمي ، إلا انه قال : " وإذا مات صاحبكم فدعوه " ، بدل قوله : " وأنا خيركم لأهلي " ، وسنده صحيح على شرط البخاري .
وله شاهد آخر ، رواه الخطيب في " التاريخ " من حديث أبي هريرة ، وللترمذي وأحمد الشطر الأول منه نحوه ، وسنده حسن 
صفحة رقم -198-
تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ( 1 ) ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إلا إن لكم على نسائكم حقا ، ولنسائكم عليكم حقا ، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكروهن ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ( 2 )
( 1 )
أي : ظاهرة ، وفي " النهاية " :
"
وكل خصلة قبيحة ، فهي فاحشة من الأقوال والأفعال " .
ولذا قال السندي في حاشيته :
"
والمراد : النشوز وشكاسة الخلق ، وإيذاء الزوج وأهله باللسان واليد ، لا الزنا ، إذ لا يناسب قوله ( ضربا غير مبرح ) ، وهذا هو الملائم لقوله تعالى : {واللاتي تخافون نشوزهن} الآية ، فالحديث على هذا كالتفسير لها ، فإن المراد بالضرب فيها هو الضرب المتوسط لا الشديد ) .
( 2 )
أخرجه الترمذي ، وقال : " حديث حسن صحيح " ، وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه ، وصححه ابن القيم في " الزاد " .
وله شاهد من حديث عم أبي حرة الرقاشي ، أخرجه أحمد في " المسند " ، وقد خرجته في " الإرواء " .
واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم ، ليس
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم :
(
لا يفرك ( أي لا يبغض ) مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا رضي منها آخر ( 1 ) .
الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم :
(
أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخيارهم خيارهم لنسائهم ( 2 ) .
( 1 )
أخرجه مسلم ، وغيره من حديث أبي هريرة .
( 2 )
أخرجه الترمذي ، وأحمد ، وأبو الحسن الطوسي في " مختصره " ، وحسنه ، وقال الترمذي :
"
حديث حسن صحيح " .
قلت : وهو حسن الإسناد عن أبي هريرة ، وشطره الأول صحيح جاء من طرق صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد خرجته في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " طبع المكتب الإسلامي .
199 
صفحة رقم -200-
الخامس : عن عائشة رضي الله عنها قالت :
(
دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم [ والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد ] ، [ في يوم عيد ] ، فقال لي : [ يا حميراء ( 1 ) أتحبين أن تنظري إليهم ؟ فقلت : نعم ] ( 2 )
( 1 )
تصغير الحمراء ، يريد البياض ، كذا في " النهاية " .
( 2 )
هذه الزيادة رواها النسائي في " عشرة النساء " ، وقال الحافظ في " الفتح " :
"
إسناده صحيح ، ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا 
صفحة رقم -201-
(
فأقامني وراءه ] ، فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم ، [ فوضعت ذقني على عاتقه ، وأسندت وجهي إلى خده ] ، فنظرت من فوق منكبيه ( وفي رواية : من بين أذنه وعاتقه ) [ وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ] فجعل يقول : يا عائشة ما شبعت فأقول : لا ، لأنظر منزلتي عنده ] حتى شبعت .
صفحة رقم -202-
(
قالت : ومن قولهم يومئذ : أبا القاسم طيبا ] وفي رواية : [ حتى إذا مللت ، قال : حسبك ؟ قلت نعم ، قال : فاذهبي ) ، وفي أخرى : [ قلت : لا تعجل ، فقام لي ، ثم قال : حسبك ؟ قلت : لا تعجل ، [ ولقد رأيته يرواح بين قدميه ] ، قالت : ما بي حب النظر إليهم ، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ، ومكاني منه [ وأنا جارية ] ، [ فاقدروا قدر الجارية [ العربة ] الحديثة السن ، الحريصة على اللهو ] ، [ قالت : فطلع عمر ، فتفرق الناس عنها والصبيان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر ] ، [ قالت عائشة : قال صلى الله عليه وسلم يومئذ : لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ] ) . ( 1 )
( 1 )
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم .
صفحة رقم -203-
السادس : عنها أيضا قالت :
(
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ، وفي سهوتها ستر ، فهبت ريح ، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب ، فقال : ما هذا عائشة ؟ قالت : بناتي ، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت : فرس ، قال : وما هذا الذي عليه ؟ قال : جناحان ، قال : فرس له جناحان ؟ قالت : أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة ؟ قالت : فضحك حتى رأيت نواجذه ( 1 ) .
( 1 )
أبو داود في " سننه " والنسائي بسند صحيح .
صفحة رقم -204-
السابع : عنها أيضا :
(
أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره ، وهي جارية [ قالت : لم أحمل اللحم ، ولم أبدن ( 1 ) ] ، فقال لأصحابه : تقدموا ، [ فتقدموا ] ، ثم قال : تعالي أسابقك ، فسابقته ، فسبقته على رجلي ، فلما كان بعد ، خرجت معه في سفر ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال : تعالي أسابقك ، ونسيت الذي كان ، وقد حملت اللحم ، [ وبدنت ] ، فقلت : كيف أسابقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على هذه الحال ؟ فقال : لتفعلن ، فسابقته ، فسبقني ، ف [ جعل يضحك ، و] قال : هذه بتلك السبقة ( 2 ) .
( 1 )
بدن وبدن ، فبالتشديد بمعنى كبر واسن ، وبالتخفيف من البدانة ، وهي كثرة اللحم والسمنة ، وهذا المعنى هو الأليق بالسياق ، انظر " النهاية " .
( 2 )
أخرجه الحميدي في مسنده وأبو داود والنسائي والطبراني وابن ماجه مختصرا وسنده صحيح كما قال العراقي في " تخريج الإحياء " .
صفحة رقم -205-
الثامن : عنها أيضا قالت :
(
إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤتى بالإناء ، فأشرب منه وأنا حائض ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع في ، وإن كنت لآخذ العرق فآكل منه ، ثم يأخذه فيضع فاه على موضع في ( 1 ) .
التاسع : عن جابر بن عبد الله ، وجابر بن عمير ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(
كل شيء ليس فيه ذكر الله ، فهو [ لغو ] وسهو ولعب ، إلا أربع [ خصال ] : ملاعبة الرجل امرأته ، وتأديب الرجل فرسه ، ومشيه بين الغرضين ( 2 ) ، وتعليم الرجل السباحة ( 3 )
( 1 )
أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما .
( 2 )
تثنية " غرض " وهو الهدف .
( 3 )
أخرجه النسائي والطبراني وأبو نعيم بإسناد صحيح .
صفحة رقم -206-
41 -
وصايا إلى الزوجين :
وختاما أوصي الزوجين :
أولا : أن يتطاوعا ويتناصحا بطاعة الله تبارك وتعالى ، واتباع أحكامه الثابتة في الكتاب والسنة ، ولا يقدما عليها تقليدا أو عادة غلبت على الناس ، أو مذهبا فقد قال عز وجل : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ الأحزاب : 36 ] .
ثانيا : أن يلتزم كل واحد منهما القيام بما فرض الله عليه من الواجبات والحقوق تجاه الآخر ، فلا تطلب الزوجة - مثلا - أن تساوي الرجل في جميع حقوقه ، ولا يستغل الرجل ما فضله الله تعالى به عليها من السيادة
صفحة رقم -207-
والرياسة فيظلمها ، ويضربها بدون حق ، فقد قال الله عز وجل :
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم [ البقرة : 228 ] ، وقال :
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن ( 1 ) فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ( 2 ) إن الله كان عليا كبيرا [ النساء : 34 ] .
( 1 )
أي : خروجهن عن الطاعنة ، قال ابن كثير :
"
والنشوز هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه " .
( 2 )
أي : إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها ، فلا سبيل له عليها بعد ذلك ، وليس له ضربها ولا هجرانها ، وقوله : {إن الله كان عليا كبيرا} ، تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهن ، وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن . كذا في " تفسير ابن كثير " .
صفحة رقم -208-
وقد قال معاوية بن حيدة رضي الله عنه : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح الوجه ( 1 ) ، ولا تضرب ، [ ولا تهجر إلا في البيت ( 2 ) ، كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض ( 3 ) إلا بما حل عليهن ] ( 4 )
وقال صلى الله عليه وسلم :
(
المسقطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في
( 1 )
أي : لا تقل : قبح الله وجهك . وقوله : " ولا تضرب " يعني : الوجه ، وإنما يضرب عند اللزوم في غير الوجه .
( 2 )
أي : لا تهجرها إلا في المضجع ، ولا تتحول عنها ، أو تحولها إلى دار أخرى ، كذا في " شرح السنة " .
( 3 )
يعني الجماع . وقوله : " إلا بما هو حل عليهن " ، يعني من الضرب والهجر بسبب نشوزهن ، كما هو صريح الآية المتقدمة .
( 4 )
رواه أبو داود والحاكم وأحمد والزيادة له بسند حسن . وقال الحاكم :
"
صحيح " . ووافقه الذهبي .
صفحة رقم -209-
حكمهم وأهليهم وما ولوا ( 1 ) .
فإذا هما عرفا ذلك وعملا به ، أحياهما الله تبارك وتعالى حياة طيبة ، وعاشا - ما عاشا معا - في هناء وسعادة ، فقد قال عز وجل : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ النحل : 97 ] .
ثالثا : وعلى المرأة بصورة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها ، فإن هذا مما فضل الله به الرجال على النساء كما في الآيتين السابقتين : الرجال قوامون على النساء ، وللرجال عليهن درجة ، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة مؤكدة لهذا المعنى ، ومبينة بوضوح ما للمرأة ، وما عليها إذا هي أطاعت زوجها أو عصته ، فلا بد من إيراد بعضها ، لعل
( 1 )
رواه مسلم وابن منده وقال : " حديث صحيح " .
صفحة رقم -210-
فيها تذكيرا لنساء زماننا ، فقد قال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
الحديث الأول : [ لا يحل لأمرأة أن تصوم ( وفي رواية : لا تصم المرأة ) وزوجها شاهد ( 1 ) إلا بإذنه [ غير رمضان ] ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ( 2 )
( 1 )
أي : حاضر مقيم في البلد ، قال النووي في " شرح مسلم " ، تحت الرواية الثانية :
"
وهذا النهي للتحريم ، صرح به أصحابنا " .
قلت : وهو قول الجمهور كما في " الفتح " ، ويؤيده الرواية الأولى ، ثم قال النووي :
"
وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام ، وحقه فيه واجب على الفور ، فلا يفوته بتطوع ، ولا بواجب على التراخي " .
قلت : فإذا وجب على المرأة أن تطيع زوجها في قضاء شهوته منها ، فبالأولى أن يجب عليها إطاعته فيما هو أهم من ذلك مما فيه تربية أولادها ، وصلاح أسرتهما ، ونحو ذلك من الحقوق والواجبات ، وقال الحافظ في " الفتح " :
"
وفي الحديث أن حق الزوج آكد عكلى المرأة من التطوع بالخير ، لأن حقه واجب ، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع " .
( 2 )
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما
صفحة رقم -211-
الثاني : [ إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ( 1 ) فلم تأته ، فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح ، ( وفي رواية : أو حتى ترجع ، وفي أخرى : حتى يرضى عنها ( 2 ) .
الثالث : [ والذي نفسي محمد بيده ، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ، ولو سألها نفسها وهي على قتب ( 3 ) لم تمنعه من [ نفسها ] ( 4 )
( 1 )
كناية عن الجماع ، ويقويه قوله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش " ، أي : لمن يطأ في الفراش ، والكناية عن الأشياء التي يستحيى منها كثيرة في القرآن والسنة . قاله ابن أبي جمرة كما في " الفتح " .
( 2 )
رواه البخاري ومسلم والرواية الأخرى له في رواية وأبو داود وغيرهم .
( 3 )
أي : رحل ، في " اللسان " : " القتب " و" القتب " : إكاف البعير . وفي " الصحاح " : رحل صغير على قدر السنام ، وفي " النهاية " :
"
القتب للجمل كالإكاف لغيره ، ومعناه الحث لهن على مطاوعة أزواجهن ، وأنه لا يسعهن الامتناع في هذه الحال ، فكيف في غيرها ؟ " .
( 4 )
حديث صحيح . رواه ابن ماجه وغيره .  
صفحة رقم -212-
الرابع : [ لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ، فإنما هو عندك دخيل ( 1 ) يوشك أن يفارقك إلينا ( 2 ) .
( 1 )
في " النهاية " : " الدخيل : الضيف والنزيل " .
( 2 )
رواه الترمذي وابن ماجه .
صفحة رقم -213-
الخامس : عن حصين بن محصن قال : حدثتني عمتي قالت :
(
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة ، فقال : أي هذه أذات بعل ؟ قلت : نعم ، قال : كيف أنت له ؟ قالت : ما آلوه ( 1 ) : [ أي لا أقصر في طاعته وخدمته ] إلا ما عجزت عنه ، قال : [ فانظري ] أين أنت منه ؟ فإنما هو جنتك ونارك ( 2 )
( 1 )
أي : لا أقصر في طاعته وخدمته .
( 2 )
رواه ابن أبي شيبة ، وابن سعد والنسائي في " عشرة النساء " ، وأحمد ، والطبراني في " الأوسط " من " زوائده " وإسناده صحيح كما قال الحاكم . . .
صفحة رقم -214-
السادس : إذا صلت المرأة خمسها ، وحصنت فرجها ، وأطاعت بعلها ، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ( 1 ) .
وجوب خدمة المرأة لزوجها
قلت : وبعض الأحاديث المذكورة آنفا ظاهرة الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها وخدمتها إياه في حدود استطاعتها ، ومما لا شك فيها أن من أول ما يدخل في ذلك الخدمة في منزله ، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك ، وقد اختلف العلماء في هذا ، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في [ الفتاوى ) ( 2/234 - 235 ) :
( 1 )
حديث حسن أو صحيح له طرق فرواه الطبراني في الأوسط وكذا ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة . . .
صفحة رقم -215-
(
وتنازع العلماء ، هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ، ومناولة الطعام والشراب ، والخبز والطحن والطعام لممالكيه وبهائمه ، مثل علف دابته ونحو ذلك ؟ فمنهم من قال :
لا تجب الخدمة . وهذا القول ضعيف ، كضعف قول من قال : لا تجب عليه العشرة والوطء فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف ، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحته لم يكن قد عاشره بالمعروف .
وقيل - وهو الصواب - : وجوب الخدمة ، فإن الزوج سيدها في كتاب الله ، وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كما تقدم ص 270 ) ، وعلى العاني والعبد الخدمة ، ولأن ذلك هو المعروف .
ثم من هؤلاء من قال : تجب الخدمة اليسيرة ، ومنهم من قال : تجب الخدمة بالمعروف . وهذا هو الصواب ، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها
صفحة رقم -216-
لمثله ، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال ، فخدمة البدوية ليست كخدمة القوية ، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة ) .
قلت : وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى أنه يجب على المرأة خدمة البيت ، وهو قول مالك وأصبغ كما في [ الفتح ) ( 9/418 ) ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وكذا الجوزجاني من الحنابلة كما في [ الاختيارات ) ( ص 145 ) ، وطائفة من السلف والخلف ، كما في [ الزاد ) ( 4/46 ) ، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلا صالحا .
وقول بعضهم : [ إن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام ، مردود بأن الاستمتاع حاصل للمرأة أيضا بزوجها ، فهما متساويان في هذه الناحية ، ومن المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أوجب على الزوج شيئا آخر لزوجته ، ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها ، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضا لزوجها ، وما هو إلا خدمتها إياه ، ولا سيما أنه القوام عليها بنص القرآن الكريم كما سبق ، وإذا لم تقم هي
صفحة رقم -217-
بالخدمة فسيضطر هو إلى خدمتها في بيتها ، وهذا يجعلها هي القوامة عليه ، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى ، فثبت أنه لا بد لها من خدمته ، وهذا هو المراد .
وأيضا فإن قيام الرجل بالخدمة يؤدي إلى أمرين متباينين تمام التباين أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح ، وتبقى المرأة في بيتها عطلا عن أي عمل يجب عليها القيام به ، ولا يخفى فساد هذا في الشريعة التي سوت بين الزوجين في الحقوق ، بل وفضلت الرجل عليها درجة ، ولهذا لم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم شكوى ابنته فاطمة عليها السلام حينما :
(
أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى ، وبلغها أنه جاءه رقيق ، فلم تصادفه ، فذكرت لعائشة ، فلما جاء ، أخبرته عائشة ، قال علي رضي الله عنه : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا ، فذهبنا نقوم ، فقال : على مكانكما ، فجاء ، فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني ، فقال : ألا أدلكما على خير مما سألتما ؟ إذا أخذتما مضاجعكما ، أو أويتما إلى فراشكما ، فسبحا ثلاثا وثلاثين ، واحمدا ثلاثا  صفحة رقم -218ثلاثين ، وكبرا أربعا وثلاثين ، فهو خير لكما من خادم [ قال علي : فما تركتها بعد ، قيل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفينرواه البخاري ( 9/417 - 418 ) .
فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعلي : لا خدمة عليها ، وإنما هي عليك ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدا كما قال ابن القيم رضي الله عنه ، ومن شاء زيادة البحث في هذه المسألة فليرجع إلى كتابه القيم [ زاد المعاد ) ( 4/45 - 46هذا وليس فيما سبق من وجوب خدمة المرأة لزوجها ما ينافي استحباب مشاركة الرجل لها في ذلك ، إذا وجد الفراغ والوقت ، بل هذا من حسن المعاشرة بين الزوجين ، ولذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :
(
كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله ، يعني خدمة أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )رواه البخاري ( 2/129 و9/418 ) ، والترمذي ( 3/314 ) ، وصححه ، والمخلص من الثالث من  السادس من [ المخلّصيات ) ( 66/1 ) ، وابن سعد ( 1/366 ) . ورواه في [ الشمائل ) ( 2/185 ) من طريق أخرى عنها بلفظ :
(
كان بشراً من البشر يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه  ورجاله رجال الصحيح ، وفي بعضهم ضعف ( 1 ) . لكن رواه أحمد وأبو بكر الشافعي بسند قوي كما حققته في [ سلسلة الأحاديث الصحيحة ) ( رقم 670 ) ، والله ولي التوفيق .
وهذا آخر ما وفقنا الله تبارك وتعالى لذكره من آداب الزفاف في هذه الرسالة . و[ سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ) .
( 1 )
قلت : ولذلك ضعفه المعلق على شرح السنة 13/243/3676 وفاته الوقوف على الطريق القوية التي يأتي الإشارة إليها قريباً . وراجع إن شئت كتابي " مختصر الشمائل " رقم 293 للمؤلف ...........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تاب الطلاق للعدة محكما وكاملا

كتاب الطلاق المُحْكَم والكامل كتاب الطلاق المحكم والكامل منقحا هيتميل  نسخة منقحة ليس فيها درافت بلوجر الملوث للمدونة ومذيلة بموضوع ال...